فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَإِذَا جَاءتِ الطامة الكبرى} إلخ شروع في بيان معادهم أثر بيان أحوال معاشهم بقوله عز وجل: {متاعاً} إلخ والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها على ما قيل كما ينبئ عنه لفظ المتاع والطامة أعظم الدواهي لأنه من طم بمعنى علا كما ورد في المثل جرى الوادي فطم على القرى وجاء السيل فطم الركي وعلوها على الدواهي غلبتها عليها فيرجع لما ذكر قيل فوصفها بـ: {الكبرى} للتأكيد ولو فسرها كونها طامة بكونها غالبة للخلائق لا يقدرون على دفعها لكان الوصف مخصصاً وقيل كونها طامة باعتبار أنها تغلب وتفوق ما عرفوه من دواهي الدنيا وكونها كبرى باعتبار أنها أعظم من جميع الدواهي مطلقاً وقيل غير ذلك وأنت تعلم أن الطامة الكبرى صارت كالعلم للقيامة وروى كونها اسماً من أسمائها هنا عن ابن عباس أيضاً وعن الحسن أنها النفخة الثانية وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن القاسم بن الوليد الهمداني أنها الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وأخرجا عن عمرو بن قيس الكندي أنها ساعة يساق أهل النار إلى النار وفي معناه قول مجاهد هي إذا دفعوا إلى مالك خازن جهنم.
{يوم يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى} بدل كل أو بعض من {إذا جاءت} [النازعات: 31] على ما قلي وقيل بدل من {الطامة الكبرى} فيكون مرفوع المحل وفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين وتكون {الطامة} حقيقة التذكر والبروز لأن حسن العمل يغلب كل لذة وسواه كل مشقة وكذا بروز الجحيم مع الابتلاء به يغلب كل مشقة ومع النجاة عنه كل لذة ولا يخفى تعسفه.
وقيل ظرف لجاءت وعليه الطبرسي واستظهر أنه منصوب بأعني تفسيراً للطامة الكبرى وما موصولة وسعى بمعنى عمل والعائد مقدر أي له والمراد يوم يتذكر كل أحد ما عمله من خير أو شر بأن يشاهده مدوناً في صحيفته وقد كان نسبه من فرط الغفلة أو طول الأمد أو شدة ما لقي أو كثرته التي تعجز الحافظ عن الضبط لقوله تعالى: {أحصاه الله ونسوه} [المجادلة: 6] ويمكن أن يكون تذكره بوجه آخر وجوز أن تكون ما مصدرية أي يتذكر فيه سعيه.
{وَبرزت الجحيم} عطف على {جاءت} وقيل على {يتذكر} وقيل حال من الإنسان بتقدير قد أو بدونه والموصول بعد مغن عن العائد وكلا القولين على ما في الإرشاد على تقدير الجواب يتذكر الإنسان ونحوه وسيأتي إن شاء الله تعالى فلا تغفل ومعنى برزت أظهرت إظهاراً بيناً لا يخفى على أحد {لِمَن يرى} كائنا من كان يروى أنه يكشف عنها فتتلظى فيراها كل ذي بصر وخص بعض من بالكافر وليس بشيء وقرأت عائشة وزيد بن على عكرمة ومالك بن دينار {وبرزت} مبنياً للفاعل مخففاً لمن ترى بالتاء الفوقية على أن فيه ضمير {جهنم} كما في قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] وإسناد الرؤية لها مجازاً وهو حقيقة على أن يخلق الله تعالى ذلك فيها ويجوز أن تكون خطاباً لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل راء كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إذ المجرمون} [السجدة: 12] أي لمن تراه من الكفار وقرأ أبو نهيك وأبو السماء وهرون عن أبي عمرو {وبرزت} مبنياً للمفعول مخففاً وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَن طغى} إلخ جواب {إذا} على أنها شرطية لا ظرفية كما جوز على طريقة قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدِىَ} [البقرة: 38] الآية وقولك إذا جاءك بنو تميم فاما العاصي فاهنه وأما الطائع فاكرمه واختاره أبو حيان وقيل جوابها محذوف كأنه قيل فإذا جاءت وقع ما لا يدخل تحت الوصف وقوله سبحانه: {فَأَمَّا} إلخ تفصيل لذلك المحذوف وفي جعله جواباً غموض وهو وجه وجيه بيد أنه لا غموض في ذاك بعد تحقق استقامة أن يقال فإذا جاءت فإن الطاغي الجحيم مأواه وغيره في الجنة مثواه وزيادة أما لم تفد إلا زيادة المبالغة وتحقيق الترتيب والثبوت على كل تقدير وقيل هو محذوف لدلالة ما قبل والتقدير ظهرت الأعمال ونشرت الصحف أو يتذكر الإنسان ما سعى أو لدلالة ما بعد والتقدير انقسم الراؤن قسمين وليس بذاك أي فأما من عتا وتمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان حتى كفر.
{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)}
{وَءاثَرَ} أي اختار {الحياة الدنيا} الفانية التي هي على جناح الفوات فانهمك فيما متع به فيها ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالايمان والطاعة.
{فَإِنَّ الجحيم} التي ذكر شأنها {هِىَ المأوى} أي مأواه على ما رآه الكوفيون من أن ال في مثله عوض عن المضاف إليه الضمير وبها يحصل الربط أو المأوى له على رأي البصريين من عدم كونها عوضاً ورابطاً وهذا الحذف هنا للعلم بأن الطاغي هو صاحب المأوى وحسنه وقوع المأوى فاصلة وهو الذي اختاره الزمخشري.
وهي أما ضمير فصل لا محل له من الإعراب أو ضمير {جهنم} مبتدأ والكلام دال على الحصر أي كأنه قيل فإن الجحيم هي مأواه أو المأوى له لا مأوى له سواها.
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} أي مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى على أن الإضافة مثلها في رقود حلب أو وأما من خاف ربه سبحانه على أن لفظ مقام مقحم والكلام معه كناية عن ذلك وإثبات للخوف من الرب عز وجل بطريق برهاني بليغ نظير ما قيل في قوله تعالى: {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} [يوسف: 21] وتمام الكلام في ذلك قد تقدم في سورة الرحمن {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} أي زجرها وكفها عن الهوى المردى وهو تلميل إلى الشهوات وضبطها بالطبر والتوطين على إيثار الخيرات ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علماً بوخامة عاقبتها وعن ابن عباس ومقاتل أنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب بين يدي ربه سبحانه فيخاف فيتركها وأصل الهوى مطلق الميل وشاع في الميل إلى الشهوة وسمي بذلك على ما قال الراغب لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة إلى الهاوية ولذلك مدح مخالفه قال بعض الحكماء إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه وقال الفضيل أفضل الأعمال مخالفة الهوى وقال أبو عمران الميرتلي:
فخالف هواها واعصها أن من يطع ** هوى نفسه تنزع به شر منزع

ومن يطع النفس اللجوجة ترده ** وترم به في مصرع أي مصرع

إلى غير ذلك وقد قارب أن يكون قبح موافقة الهوى وحسن مخالفته ضروريين إلا أن الشالم من من الموافقة قليل قال سهل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الصديقين فطوبى لمن سلم منه.
{فَإِنَّ الجنة هي المأوى} له لا غيرها والظاهر أن هذا التفصيل عام في أهل النار وأهل الجنة وعن ابن عباس أن الآيتين نزلتا في أبي عزيز بن عمير وأخيه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه كان الأول طاغياً مؤثر الحياة الدنيا وكان مصعب خائفاً مقام ربه ناهياً النفس عن الهوى وقد وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عن حتى نفذت المشاقص أي السهام في جوفه فلما رآه عليه الصلاة والسلام متشحطاً في دمه قال «عند الله تعالى احتسبك» وقال لأصحابه «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب» ولما أسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إكراما له وأخبر بذلك قال ما هو لي بأخ شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالاً وفي (الكشاف) أنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد وعن ابن عباس أيضاً أنهما نزلتا في أبي جهل وفي مصعب وقيل نزلت الأولى في النضر وابنه الحرث المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)}
يجوز أن يكون التفريع على الاستدلال الذي تضمنه قوله: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء} [النازعات: 27] الآيات، فإن إثبات البعث يقتضي الجزاء إذ هو حكمته.
وإذا اقتضى الجزاء كان على العاقل أن يعمل لجزاء الحسنى ويجتنب ما يوقع في الشقاء وأن يهتم بالحياة الدائمة فيؤثرها ولا يكترث بنعيم زائل فيتورط في اتباعه، فلذلك فرع على دليل إثبات البعث تذكير بالجزاءين، وإرشاد إلى النجدين.
وإذ قد قُدّم قبل الاستدلال تحذيرٌ إجماليّ بقوله: {يوم ترجف الراجفة} [النازعات: 6] الآية كما يذكر المطلوب قبل القياس في الجدل، جيء عقب الاستدلال بتفصيل ذلك التحذير مع قرنه بالتبشير لمن تحلى بضده فلذلك عبر عن البعث ابتداء بـ: {الراجفة} لأنها مبدؤه، ثم بالزجرة، وأخيراً بـ: {الطامة الكبرى} لما في هذين الوصفين من معنى يشمل {الراجفة} وما بعدها من الأهوال إلى أن يستقر كل فريق في مقره.
ومن تمام المناسبة للتذكير بيوم الجزاء وقوعه عقب التذكير بخلق الأرض، والامتنان بما هَيّأ منها للإِنسان متاعاً به، للإِشارة إلى أن ذلك ينتهي عندما يحين يوم البعث والجزاء.
ويجوز أن يجعل قوله: {فإذا جاءت الطامة الكبرى} مفرعاً على قوله: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 13، 14] فإن الطامة هي الزجرة.
ومناط التفريع هو ما عقبه من التفصيل بقوله: {فأما من طغى} إلخ إذ لا يلتئم تفريع الشيء على نفسه.
(وإذا) ظرف للمستقبل فلذلك إذا وقع بعد الفعل الماضي صُرف إلى الاستقبال، وإنما يُؤتى بعد (إذا) بفعل الماضي لزيادة تحقيق ما يفيده (إذا) من تحقق الوقوع.
والمجيءُ: هنا مجاز في الحصول والوقوع لأن الشيء الموقّت المؤجل بأجل يشبه شخصاً سائراً إلى غاية، فإذا حصل ذلك المؤجل عند أجله فكأنه السائرُ إلى، إذا بلغ المكان المقصود.
والطامة: الحادثة، أو الوقعة التي تَطِمُّ، أي تعلو وتغلب بمعنى تفوق أمثالها من نوعها بحيث يقل مثلها في نوعها، مأخوذ من طَمَّ الماء، إذا غمر الأشياء وهذا الوصف يؤذن بالشدة والهول إذ لا يقال مثله إلا في الأمور المهولة ثم بولغ في تشخيص هولها بأن وصفت بـ: {الكبرى} فكان هذا أصرح الكلمات لتصوير ما يقارن هذه الحادثة من الأهوال.
والمراد بـ: {الطامة الكبرى}: القيامة وقد وصفت بأوصاف عديدة في القرآن مثل {الصاخّة} و{القارعة} و{الراجفة} ووصفت بـ: {الكبرى}.
و{يوم يتذكر الإنسان ما سعى} بدل من جملة {إذا جاءت الطامة الكبرى} بدل اشتمال لأن ما أضيف إليه يوم هو من الأحوال التي يشتمل عليها زمن مجيء الطامة وهو يوم القيامة ويوم الحساب.
وتَذَكُّر الإِنسان ما سعاه: أن يوقَف على أعماله في كتابه لأن التذكر مطاوع ذكَّره.
والتذكر يقتضي سبق النسيان وهو انمحاء المعلوم من الحافظة.
والمعنى: يوم يُذَكَّر الإِنسان فيتذكر، أي يعرض عليه عمله فيعترف به إذ ليس المقصود من التذكر إلا أثره، وهو الجزاء فكني بالتذكر عن الجزاء قال تعالى: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14].
وتبريز الجحيم: إظهارها لأهلها.
وجيء بالفعل المضاعف لإِفادة إظهار الجحيم لأنه إظهار لأجل الإِرهاب.
والجحيم: جهنم.
ولذلك قرن فعله بتاء التأنيث لأن جهنم مؤنثة في الاستعمال، أو هو بتأويل النار، والجحيم كل نار عظيمة في حفرة عميقة.
وبنى فعل {برزت} للمجهول لعدم الغرض ببيان مُبَرّزها إذ الموعظة في الإِعلام بوقوع إِبرازها يومئذ.
و{لمن يرى}، أي لكل راء، ففعلُ {يرى} منزّل منزلة اللازم لأن المقصود لمن له بصر، كقول البحتري:
أنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَع وَاعِ

والفاء في قوله: {فأما من طغى} رابطة لجواب (إذا) لأن جملة {من طغى} إلى آخرها جملة اسمية ليس فيها فعل يتعلق به (إذا) فلم يَكن بين (إذا) وبين جوابها ارتباط لفظي فلذلك تُجلب الفاء لربط الجواب في ظاهر اللفظ، وأما في المعنى فيعلم أن (إذا) ظرف يتعلق بمعنى الاستقرار الذي بين المبتدأ والخبر.
و(أمَّا) حرف تفصيل وشرط لأنها في معنى: مَهما يكن شيء.
والطغيان تقدم معناه آنفاً.
والمراد هنا: طغى على أمر الله، كما دل عليه قوله: {وأما من خاف مقام ربه}.
وقُدّم ذكر الطغيان على إيثار الحياة الدنيا لأن الطغيان من أكبر أسباب إيثار الحياة الدنيا فلما كان مسبباً عنه ذكر عقبه مراعاة للترتب الطبيعي.
والإِيثار: تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما.
ويعدّى فعل الإِيثار إلى اسم المأثور بتعدية الفعل إلى مفعوله، ويعدّى إلى المأثور عليه بحرف (على) قال تعالى حكاية {لقد آثرك الله علينا} [يوسف: 91]، وقد يترك ذكر المأثور عليه إذا كان ذكر المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة.
وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم} [الحشر: 9] لظهور أن المراد يؤثرون الفقراء.
والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها، أي التي لا تُشاركُها فيها حظوظُ الآخرة، فالكلام على حذف مضاف، تقديره: نعيم الحياة.
ويفهم من فعل الإِيثار أن معه نبْذاً لنعيم الآخرة.
ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس، وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإلهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة.
وملاك هذا الإِيثار هو الطغيان على أمر الله، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكباراً عن أن يكونوا تبعاً للغير فتضيعَ سيادتهم.
وقد زاد هذا المفادَ بياناً قوله بعده: {وأما من خاف مقام ربه} الآية.
وبه يظهر أن مناط الذم في إيثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة، فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الأخذُ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم، وهو مقام كثير من عِباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون: {وابْتَعِ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77].
وقوله: {من خاف مقام ربه} مقابل قوله: {من طغى} لأن الخوف ضد الطغيان وقوله: {نهى النفس عن الهوى} مقابل قوله: {وآثر الحياة الدنيا}.
ونهى الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النفس من المعاصي والهوى، فجعلت نفس الإِنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السيئات وهو ينهاه عن هذه الدعوة، وهذا يشبه ما يسمى بالتجريد، يقولون: قالت له نفسه كذا فعصاها، ويقال: نهى قَلْبَه، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول عروة بن أذيْنة:
وإذا وجَدْت لها وسَاوس سَلْوة ** شفَع الفُؤاد إلى الضمير فسلها

والمراد بـ: {الهوى} ما تهواه النفس فهو مصدر بمعنى المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق، فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفعَ الكامل.
وشاع الهوى في المرغوب الذميم ولذلك قيل في قوله تعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من اللَّه} [القصص: 50] أن {بغير هدى} حال فمؤكدة ليست تقييداً إذ لا يكون الهوى إلا بغير هدى.
وتعريف {الهوى} تعريف الجنس.
والتعريف في {المأوى} الأول والثاني تعريف العهد، أي مأوَى من طغى، ومأوى من خَاف مقام ربه، وهو تعريف مُغْنٍ عن ذكر ما يضاف إليه {مأوى} ومثله شائع في الكلام كما في قوله: غُضَّ الطرف، أي الطرف المعهود من الأمر، أي غض طرفك.
وقوله: واملأ السمعَ، أي سمعك وقوله تعالى: {وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال} [الأعراف: 46]، أي على أعراف الحجاب، ولذلك فتقدير الكلام عند نحاة البصرة المأوى له أو مأواه عند نحاة الكوفة، ويسمي نحاة الكوفة الألف واللام هذه عوضاً عن المضاف إليه وهي تسمية حسنة لوضوحها واختصارها، ويأبى ذلك البصريون، وهو خلاف ضئيل، إذ المعنى متفق عليه.
والمأوى: اسم مكان من أوَى، إذا رجع، فالمراد به: المقر والمسكن لأن المرء يذهب إلى قضاء شؤونه ثم يرجع إلى مسكنه.
و{مقام ربه} مجاز عن الجلال والمهابة وأصل المقام مكان القيام فكان أصله مكان ما يضاف هو إليه، ثم شاع إطلاقه على نفس ما يضاف إليه على طريقة الكناية بتعظيم المكان عن تعظيم صاحبه، مثل ألفاظ: جناب، وكَنَفَ، وذَرَى، قال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46] وقال: {ذلك لمن خاف مقامي} [إبراهيم: 14] وذلك من قبيل الكناية المطلوب بها نسبة إلى المكنى عنه فإن خوف مقام الله مراد به خوف الله والمراد بالنسبة ما يَشمل التعلق بالمفعول.
وفي قوله: {يوم يتذكر الإنسان ما سعى} إلى قوله: {فإن الجنة هي المأوى} محسن الجمع مع التقسيم.
وتعريف {النفس} في قوله: {ونهى النفس} هو مثل التعريف في {المأوى}.
وفي تعريف (أصحاب الجحيم) و(أصحاب الجنة) بطريق الموصول إيماء إلى أن الصلتين عِلتان في استحقاق ذلك المأوى. اهـ.